حروب المسيرات.. جبهة جديدة للقتال في أجواء أوكرانيا
كشفت المعارك التي تدور رحاها في أوكرانيا منذ أكثر من عام عن مسرح جديد للعمليات القتالية بين القوات المتحاربة، ألا وهو حروب المسيرات.
ولا يستخدم في هذه المعارك الرصاص أو الصواريخ أو المقذوفات، بل تدور ببساطة في صورة مواجهات واصطدامات بين المسيرات الصغيرة المزودة بأربع مراوح والتي تستخدم في أغراض التجسس، أو أن تقوم مسيرة متطورة تعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي ومزودة برادار متخصص بإطلاق شبكة موجهة بدقة صوب مسيرة أخرى وتسقطها أرضا.
وتقول كاتلين لي رئيس قسم المركبات الجوية غير المأهولة في معهد ميتشل لدراسات الفضاء في أرلنجتون بالولايات المتحدة: "هذه هي المرة الأولى التي نشهد فيها معارك قتالية بين المسيرات وبعضها". وتكشف الأعمال القتالية التي تدور حاليا في أوكرانيا أن استخدام هذه الوسيلة القتالية، بما في ذلك مسيرات مسلحة تعمل بالتنسيق مع الطائرات الحربية التقليدية المأهولة، قد أفسحت لنفسها مجالا أرحب في ساحات المعارك.
وتهدف الولايات المتحدة في الوقت الحالي إلى بناء أسطول يتألف من ألف مسيرة عالية الكفاءة تعمل بالتوازي مع المقاتلات المأهولة المتقدمة، ردا على التحديات المتزايدة التي أصبحت تمثلها الصين للهيمنة الأمريكية على الأجواء في ساحات القتال والمستمرة منذ زهاء 75 عاما.
وفي أوكرانيا، نشأت المعارك الجوية بين المسيرات بسبب انتشار طائرات مسيرة صغيرة مخصصة أصلا للأغراض التجارية يمكنها التحليق على ارتفاعات منخفضة مثل المسيرة الصينية رباعية المراوح من طراز "دي.جي.أي".
وقد نجحت الأطراف المتحاربة في تطوير هذه المسيرات بحيث تقوم بأعمال استطلاع وتجسس بل واسقاط قنابل يدوية. وجدير بالذكر أن التصدي لهذه المسيرات مسألة شاقة نظرا لأن وزنها لا يزيد عن عدة أرطال، وبالتالي يصعب على الوسائل الدفاعية رصدها.
ونقل الموقع الإلكتروني "ساينتفيك أمريكان" المتخصص في الأبحاث العلمية عن سارة كريبس مدير معهد "كورنيل بروكس" للسياسات التكنولوجية قولها: "يمكننا تجهيز الدفاعات الجوية لرصد الأجسام الصغيرة المحلقة، ولكنها في هذه الحالة سوف تلتقط الطيور التي تحلق في السماء، وبالتالي فهي مشكلة صعبة تتعلق أساسا بالمستشعرات"، وتتشابه إلى حد ما مع مشكلة الأجسام المتفجرة محلية الصنع التي واجهتها الجيوش النظامية المتقدمة في معارك سابقة، فهذه المسيرات الصغيرة هي في الحقيقة أجسام طائرة متفجرة يمكنها التحايل على أنظمة القتال التقليدية، وتعطي الخصم مزايا غير تماثلية يصعب مواجهتها في ساحات المعارك.
وأضافت كريبس أنه من بين التحديات الأخرى التي تمثلها هذه المسيرات أنها أصبحت رخيصة ومنتشرة على نطاق واسع بحيث يمكن لأي طرف شرائها. ورغم أن هذه المسيرات بعد تعديلها عسكريا لن تكون قادرة على إحداث أضرار بالغة، فإن عدد الأهداف المحتملة الضعيفة التي قد تستهدفها هذه الطائرات غير المأهولة يكاد يكون لانهائي، وهو ما قد يسمح لجماعات مقاتلة ذات إمكانيات محدودة بمهاجمة خصم أقوى منها.
واعربت كاتلين لي عن اعتقادها، في تصريحات لموقع "ساينتفيك أمريكان"، أن عصر معارك المسيرات قد بدأ بالفعل، ولكن ليس من الواضح بعد ما إذا كانت هذه الطائرات غير المأهولة يمكنها أن تلعب دورا حاسما في المعارك التي تدور في أوكرانيا عن طريق إحداث تفوق هجومي أو إعطاء زمام المبادرة لطرف دون الآخر.
وأضافت أن "السؤال المطروح حاليا هو هل تحتاج المسيرات لأن تكون أكثر تطورا من أجل إثبات جدارتها، وأن تسهم في حملة منسقة بين عدة أسلحة من أجل استعادة الأراضي".
غير أن خبراء الدفاع لا يجلسون مكتوفي الأيدي بانتظار أن تتطور المسيرات الصغيرة. فقد طلب الكونجرس الأمريكي في قانون تفويض الدفاع الوطني الأمريكي عام 2021 من البنتاجون أن يضع خطة لتطوير ونشر أنظمة دفاع جوي لمواجهة المسيرات الصغيرة. ويعتزم البنتاجون انفاق نحو 700 مليون دولار هذا العام على أبحاث مكافحة المسيرات، فضلا عن 78 مليون دولار لشراء المعدات اللازمة. وتشير دراسات بحثية خاصة إلى أن سوق أنظمة مكافحة المسيرات سوف ينمو من 3ر2 مليار دولار في 2023 إلى 6ر12 مليار دولار بحلول عام 2030.
وتثير هذه الاحتمالات شهية العشرات من الشركات حول العالم مثل "بلايتر سيرفيلنس سيستمز" في انجلترا، و"ديدرون" و"ديتيك" في الولايات المتحدة من أجل تطوير تقنيات للتصدي للمسيرات. وقد تكون هذه الأنظمة المضادة أرضية أو محمولة أو مثبتة على متن مسيرات أخرى، بحيث يمكنها اسقاط المسيرات المعادية بواسطة أشعة الليزر أو الموجات الكهرومغناطيسية أو وسائل أخرى.
وتقول شركة "فورتام تكنولوجيز" ومقرها في ولاية يوتاه الأمريكية أنها طورت بالفعل منظومة كاملة لرصد المسيرات الصغيرة واسقاطها في الهواء عن طريق استهدافها بشبكات خاصة. وتحمل هذه المنظومة اسم "درون هانتر إف 700"، وهي عبارة عن مسيرة بست مراوح وقاذفتين للشباك، ويمكنها اقتناص المسيرات المعادية الصغيرة. وتمنع الشبكات المسيرة المعادية من التحليق وتسقطها أرضا بفعل وزنها، كما أن الشبكة مزودة بمظلة لتخفيف تأثير هبوط المسيرة على الأرض.
ويقول جون جرون الرئيس التنفيذي لشركة فورتام: "في حقيقة الأمر، نحن الجهة الوحيدة في العالم حتى الآن التي يمكنها القيام بهذه العملية".
وتستخدم الولايات المتحدة هذه المنظومة لحماية مواقع "استراتيجية" لم تحددها، كما بدأت أوكرانيا استخدام منظومة فورتام لعمل دوريات جوية لاسقاط المسيرات الروسية واستعادتها بصورة سليمة.
وتشير تقارير إلى أن منظومة درون هانتر عرقلت القدرات الروسية على استخدام المسيرات في جمع المعلومات اللازمة للقصف المدفعي على المواقع الأوكرانية، وحدت من تأثير المسيرات التي تقوم بهجمات انتحارية لاستهداف مواقع البنية التحتية المهمة في أوكرانيا.