شيخ الأزهر: اهتمام التشريع الإسلامي بالمرأة ينطلق من مكانة الأسرة في الإسلام
قال فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، إنَّ اهتمام التشريع الإسلامي بالمرأة، والتحذيرَ من إهانتها وسَلْبها حقَّها، هو فرع ينبني على أصل، هذا الأصل هو مكانة الأسرة في الإسلام ومَنزلتها «المقدَّسة» في شريعته وأحكامه التي حمى بها صرحَ الأسرة، والأعمدةَ التي ينبني عليها هذا الصرح، وفي مقدمتها: الزوجُ والزوجة، وما عَسَى أن يكون بينهما من أطفالٍ وأبناء، وما يتعلق بهم من حقوقٍ وواجبات تتمحور كلها على مبادئ الرحمة والمودَّة من جانب، والمساواة والعدل والاحترام المتبادَل من جانبٍ آخَر.
وأضاف فضيلته اليوم الجمعة خلال الحلقة الثالثة والعشرين ببرنامجه الرمضاني «الإمام الطيب» أن الأسرة وإنْ كانت قد حظيت بشيءٍ من الاهتمام في الشَّرائع السَّابقة إلَّا أنَّها حظيت في القرآن الكريم وشريعته بما لم تحظ بمثله من قبل، وأوَّلُ ما يُلاحَظُ من شأن الأسرة في شريعة الإسلام هو توصيف الأسرة في القرآن الكريم، وأنها تتكوَّن من رجل زوجٍ وامرأة زوجةٍ، وأنَّها التَّجسيد البَشَري لخلافة الإنسان عن الله في الأرض، وأنها الضامن لاستمرار هذه الخلافة بما تبثُّه وتنشره من تكاثر النوع الإنساني وبقائه، وأنَّها أوَّلُ ما افتُتِح به هذا الكون، وهي سِرُّ بقائِه واستمرارِه، وأنَّها أوَّل مَن توجَّهتْ إليه الأوامر والنواهي الإلهية في خطابٍ إلهي مباشر.. وأنَّ موطنها الأصلي كان في الجنَّة، ثم أُهبِطت إلى الأرض لحكمة الاستخلاف الإلهي.
واستشهد بقصة سيدنا نوح عليه السلام مع قومه، وأنَّ الله تعالى قضى على البشريَّة أن تهلك بالطوفان في عهد نوح عليه السلام، بعد ما شاع فيها الفساد في الأرض، وانكبَّ الناس على عبادة الأوثان وضاع فيهم العدل، واستبدَّ الأقوياء والجبابرة بحقوق الضعفاء والمستضعفين، وبعد ما شكا نوح عليه السلام لربه قِلَّة المؤمنين به، رُغم عنائه في دعوتهم للإيمانِ به تعالى أَلْف سَنَة إلَّا خمسينَ عامًا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 5-9]، حينذاك أوحى الله إليه: {أَنَّهُ لَن يُؤمِنَ مِن قَومِكَ إِلَّا مَن قَد ءَامَنَ فَلَا تَبتَئِس بِمَا كَانُواْ يَفعَلُونَ} [هود: 36]، وأَمَرَه بصُنع سفينةٍ تَحْمل القِلَّة القليلة المؤمنة من قومه.
وأكد شيخ الأزهر أنه حين ظهرت العلامة التي نصبها الله تعالى لاقتراب حلول العذاب، أمَر اللهُ سيدنا نوح أن يحمل في سفينته من كل أنواع الكائنات الحيَّة أُسرة تتكوَّن من زوجين: ذكر وأنثى، لتكون نواة البشرية الجديدة، وضامنة بقائها في الطور الثاني الذي يُمثِّل فيه نوح عليه السلام «الأبَ الثاني» للنسل الحاضر، كما كانت الأسرة كذلك في طورها الأول الذي مثَل فيه آدمُ عليه السَّلام الأب الأوَّل للبشر.. وإذن، فليس مُصادفةً ولا عبثًا أنْ يبدأ الله تعالى سلسلة بني الإنسان في طورها الأوَّل بالأسرة، ثم يبدؤها في طورها الثاني بالأسرة أيضًا، بل في ذلك درس بالغ لخطر «الأسرة» المكوَّنة من رجلٍ وامرأةٍ في هذه الحياة، وأنه تعالى أقام نظامَ الكون والوجودِ كُلِّه على أنموذج الأسرة وامتزاجِها في إطار الذكورة والأنوثة، وأن أيَّ عبث يخرج بالأسرة عن هذا الإطار الإلهي فإنما هو عبثٌ بالكون، وتدميرٌ للنوعِ الإنسانيِّ، بل للوجودِ بأسْرِه.
وأشار فضيلته إلى أن مِمَّا يَلْحَظُه المتأمِّل في أمر الأسرة في الإسلام أنها ليست عَقْدًا أو نِظَامًا مَدنيًّا أو طبيعيًّا أو اجتماعيًّا، وإنَّما هي عقدٌ ديني مُقدَّس له حُرمته وقُدسيتُه، وهو محاط بتشريعات إلهية دقيقة، منها ما هو ثابت وباقٍ ومصاحب للأسرة مهما تغيَّر بها الزمان والمكان، ومنها ما يتطوَّر، ولكن بشرط أن يبقى ضمن ثوابت الإسلام وأُطُره الخُلُقيَّة والإنسانيَّة، ومِمَّا يُلاحَظ في هذا السِّياق أنَّ مقصد الشَّريعة الإسلاميَّة من نظام الأسرة هو حفظُ النسل والإبقاءُ على استمرار النوع الإنساني.. وأنَّ الغريزة الجنسيَّة، وإشباعَها وإنْ كانت مقصدًا من مقاصد الزواج -إلا أنها – في المقام الأول- وسيلةٌ لبناء الأُسرة وليست غايةً متفردة في ذاتها.
وتابع شيخ الأزهر أن الغريزة الجنسية الوسيلة التي تدفع الرجلَ والمرأة للالتقاء على كيفية معينة ووضع مخصوص يضمن استمرار النوع البشري وتكاثره، وهذه الوسيلة ليست خاصة بالإنسان: رجلًا وامرأة فقط، بل هي الوسيلةُ ذاتها في بقاء الأنواع الحية كلها وتكاثرها واستمرارها، سواء في عالم الحيوان أو النبات، بل هي كذلك في عالم الأجسام والأجساد.. فأنت لا يُمكنك أن تتوازن -وقوفًا ولا مشيًا- لو لم تكن لك ساقان، وأنت لا تعملُ عملًا مُتقَنًا إلَّا إذا كانت لك يدان، ولا تتكلَّمُ لو لم يتردَّد الكلامُ بين شفتين، ولا تنتظم الحياة أصلًا إلَّا بمزاوجة الليل والنهار، والشمس والقمر، والموت والحياة، والأرض والسماء.. ومن هنا قال العلماء: «لا ينفرد بالوحدانية إلَّا الخالق الواحد، الذي يقول: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]».
وأوضح شيخ الأزهر أنَّ من أبرز ما يُطالع المتأمِّلَ في نظام الأسرة في الإسلام هذا التشريعُ التَّفصيلي الذي يُصاحب نشأة الأسرة وتطورها منذ الخطوة الأولى في بنائها وتكوينها، وهي خطوة اختيار الزوجين، كلٍّ منهما للآخَر، وعلى أي مقياس ينبغي أن يكون هذا الاختيار، وأوَّلُ ما يُطالعنا في هذا السِّياق هو أن الإسلام يَرْعَى مشروعَ بناء الأسرة منذ مرحلته الباكرة، وهي مرحلة اختيار الشاب للفتاة التي يرغب في خِطبتها، ويمدُّه بطائفةٍ من التوجيهات الخُلُقيَّة، وضوابط الواقع وتجارب الحياة، فينصحُه أوَّل ما ينصحُه أنْ ينظر إليها أوَّلًا.
وذكَّر شيخ الأزهر في هذا الأمر بقول رسول الله ﷺ، قبل خمسة عشر قرنًا من الزمان للمغيرة ابن شعبة، وقد خطب فتاة– قال له: «هلَّا نظرت إليها؟ قال: لا، قال: فانظُرْ إليها فإنَّه أحرى أنْ يُؤْدَمَ بينكما» أي: أن تدومَ الأُلفة والمودة بينكما، وكذلك ما يرويه جابر رضي الله عنه في الحديث الذي يقول فيه: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا خطبَ أحدُكمُ المرأةَ فإنِ استطاعَ أن يَنظرَ إلى ما يدعوهُ إلى نكاحِها فليفعلْ» قال جابر: «فخطبتُ امرأة فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى زواجها فتزوجتها».. ونحن نحفَظُ فيما نحفظُ من تراثنا الفقهي قول ابن قدامة في كتابِه: المغني، ومنذُ أكثر من ثمانمائة عامٍ مضت، يقول: «ولا خلافَ بين أهل العلم في إباحة النظر إلى وجه المرأة؛ وذلك لأنه ليس بعورة، وهو مَجْمعُ المحاسن، وموضع النظر، ولكن لا يُباح له النظر إلى ما لا يظهر عادة».
ولفت شيخ الأزهر إلى أن مِمَّا يجب التوقُّف عنده في الحديث النبوي السابق هو قول جابر رضي الله عنه: «فكنت أتخبأ لها» والذي يدلنا على مسلك الإسلام في احترام مشاعر المخطوبة، وأنَّ أدب الإسلام في ذلك هو أن يراها الخاطب أولًا وينظر إليها دون أن تعرف به المخطوبة، حتى إذا ما وقعت في نفسه موقعَ الرضا تقدَّم لأهلها بعد ذلك، وحتى لا يؤثر عليها عدولُه لو كانت تعلم أنه يراها ليخطبها.. وهذه هي وسطيَّة الإسلام بين المغالين الذين يمنعون رؤية الخاطب لمخطوبته، وبين مَن يفتحون الأبواب على مصاريعها لالتقاء الشباب من البنين والبنات، وللنظرات الجارحة للمشاعر والخارجة على حدود الأدب والوقار واحترام حرمات البيوت، وأعراض الأُسَر والعائلات، وكلُّها مِمَّا يحرص الإسلام أشد الحرص على حمايته من عبث المبتذِلين والمتطفِّلين.