”صلاح جاهين” مبدع العامية الفصيحة الذي ملأ الدنيا وشغل الناس
تمتع صلاح جاهين بقدرة هائلة على وصف ما يراه بدقة شديدة، انطلاقا من حساسيته الأدبية والفنية، وعبر التقاط كل شاردة وواردة تصادفه ثم إعادة تنظيم ما سمعه ورآه في أسلوب أدبي، وهو ما ظهر جليا في شعره بالعامية، واصفا ذلك في رباعيته "أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جرس.. جلجلت به صحيوا الخدم والحرس.. أنا المهرج، قمتوا ليه خفتوا ليه.. لا في إيدي سيف ولا تحت مني فرس.. عجبي!".
فـ"سحر خاص"، هو أدق تعبير يمكن به وصف الحالة التي يكون عليها القارئ لشعر ورباعيات جاهين أو المشاهد لفنونه المختلفة التي كان يبدعها.. فتصدق فيه المقولة التي كانت تطلق على المتنبي "ملأ الدنيا وشغل الناس".
وبخصوص شعر العامية لدي جاهين، فقد رأى جاهين أن العامية يجب أن تنتقل من الحديث اليومي إلى الأغراض الأدبية والفنية، وذلك رغم تأكيده أن الفصحي هي الأبقي حيث تختفي العامية بعد جيل أو جيلين، إلا أنه لفت إلى ضرورة أن تختلط العامية مع الفصحي لترتقي بها الأخيرة.
وفي هذا الصدد، قالت الدكتورة أميرة مروان المدرس بقسم اللغة العربية بكلية آداب عين شمس، في تصريح خاص لوكالة أنباء الشرق الأوسط، "إن جاهين استحوذ على راعية نقدية وجماهرية واسعة لما أمتت به أعماله بصلة وثيقة بما يجري في الحياة المجتمعه القومية، وما انطوت عليه من عناصر تجعلها تعبيرًا عن البشر في كل زمان ومكان".
وأشارت إلى أن نصوصه تكشف عن حيرة معرفية ووجودية يصوغها بطريقته المرحة الساخرة من كل شيء حتى من نفسه دون أن يفقد إيمانه العميق بجمال الحياة وقدرات الإنسان اللامحدودة، معتبرة أن هذه الرؤية هي التي وجهت جاهين للإبداع في شعر العامية دون سواه.
وأوضحت أن هذا الشعر يؤدي وظيفة مزدوجة "الجمالية" و"الاجتماعية"، وأنه على الرغم من أن الوظيفتين لهما حضورهما في الشعر الفصيح، إلا أن الوظيفة الاجتماعية في شعر العامية تسبق الجمالية، وهو ما يفسر تأثير شعر العامية طويل المدى والانتشار؛ لأن جماعة مستقبليه تنظر إليه بوصفه إبداعًا جماعيًا أداه شاعر بعينه، فشعر العامية "شعر فردي وجماعي على صعيد واحد".
وبينت أن الرباعيات بشكل عام تتسق في نسقها بمرجعية ثقافية مزدوجة، إحداهما ترتد في أحد جوانبها إلى الشعر الفصيح حيث رباعيات الخيام المعروفة ذات الأصل الفارسي، والأخرى فتتسق بشعر العامية نفسه؛ إذ لم يفلت شاعر من شعراء العامية من كتابة الرباعيات، سواء أكانت مستقلة بنفسها أم ضمن مجموعة من رباعيات متكاملة.
وحول رباعيات جاهين وما أحدثته في شعر العامية، فلفتت الدكتورة أميرة مروان إلى أن الملاحظ برباعيات العامية، وأشهرها رباعيات صلاح جاهين، أنها استحدثت لنفسها البناء الخاص بها، الذي يتلائم والحاجة الشعورية ومنتجها الدلالي الذي يخرج في قوالب مطاطة تخترق الحدود والأشكال المقننة لبنية الإيقاع في الشعر العربي الفصيح.
وتابعت: أنه، في هذا الصدد، اختار جاهين لنفسه النسق الرباعي في مجموعته، التي أطلق عليها مصطلح (الرباعيات) بوصفه بناء شكليا صاغ خلاله منتجه الدلالي بأدوات تعييرية بسيطة تجاذبت طرفي "الإيجاز" و"الإطناب" لتبسيط المعنى بالتكثيف الدال في نظام المقطوعة الرباعية.
ونوهت بـ"التيمة الأثيرة" لدي جاهين، والتي ربطت المساحات الصياغية للرباعيات ببعضها البعض من ناحية، وبالعمل والانفعال النفسي للمبدع ذاته من ناحية أخرى، وهي "عجبي" التي صاحبت كل رباعياته وتحتل الختام دائما، ولا يخلو منها الوسط أو البدء حينا آخر فيرددها أو مشتقاتها، كما في قوله "بين موت وموت.. بين النيران والنيران.. ع الحبل ماشين الشجاع والجبان.. عجبي علادي حياة.. وباللعجب.. إزاي أنا يا تخين بقيت بهلوان.. عجبي!".
وأضافت أن البحث في التكثيف الدلالي لهذه المفردة "عجبي" يربطها بوجهتها البلاغية واللغوية في المعاجم؛ إذ أن (العَجَبَ): هو النظر إلى شيء غير مألوف ولا معتاد، والشيء المعجب هو الذي بلغ الغاية في الحسن، وقد يكون إنكارا لما يرد على الإنسان لقلة اعتياده.
ورأت أن جاهين اختار هذه المفردة لتوظيفها ضمن أدواته اللغوية والتعبيرية لتكثيف الإنتاج الدلالي الذي يصل ذروته بختام المساحة الرباعية، بوصفها نتاجا مكثفا لرؤية متأملة لاحظت ما يرد عليها من وقائع ترفضها أو تقبلها نتيجة انفعال نفسي يعكس دلالة استحسان الموقف المختزل في المقطوعة أو استنكاره، منوهة بأن إضافة ياء المتكلم إلى المفردة "عجبي" أكسبها ذاتية بمنتجها، سواء أكانت وقائع الرباعية تكثف لشعرية ذاتية أو غير ذاتية.
وحول بصمات صلاح جاهين وما أحدثه في شعر العامية، أكدت الدكتورة أميرة مروان أن جاهين حقق من خلال هذا الإبداع فنية انتشارية في الزمان والمكان، حاملا ذخيرة التعبيرات الثقافية التي ترددها الألسنة عفو الخاطر حينا، وبالقصد حينا آخر، ومن ثم يشعر المتلقي لهذا الفن أنه شريك لما يرد على سمعه من إبداع الأبنية التعبيرية المبثوثة في مجمل فنون العامية أشعار وأغاني وحكايات.
ويمكن القول إن جاهين رفع التعبيرات الثقافية إلى مستوى الخطاب الأدبي الذي يتحول فيه شعر العامية إلى لغة داخل اللغة، وثقافة داخل الثقافة، وليس ذلك فقط وإنما أيضا تكاملت لديه فنون الإبداع المختلفة، اتساقا مع وصفه لنفسه خلال إحدى اللقاءات الصحفية بأنه فنان "متكامل" وليس فنان "شامل"، مضيفا "التخصص يقتلني، وأنا لا أطيق الحياة بعيدا عن الفنون المختلفة".
وأكدت الدكتورة أميرة مروان أنه أمام المهارات الفنية والإبداعية المتنوعة لجاهين، فإنه يعد بحق واحدًا من أبرز رواد (الجيل الثاني) لشعر العامية في العصر الحديث، ومؤسسا لتقاليده ومبدعا لكثير من صوره، ومجربًا لكثير من أشكاله التي تأسلبت في نسق جمالي يجمع بين الفردية والجماعية على صعيد الشعرية التي تحولت إلى أنشودة جماعية ينشدها جاهين ببصمته المميزة التي لا تقتصر على موهبته الشعرية فحسب، بل وريشة الرسام التي مكنته من الانفراد ببصمته الفنية والإبداعية بين أقرانه".
وأضافت: "وإلى الكاريكاتير أسند جاهين شقا آخر يتمثل في مرئياته الإبداعية التي تتأز مع تكثيفه الشعري وغنائيته العذبة، فمثل أشعاره انطوت رسومه الكاريكاتيرية على عناصر رمزية أثارت الكثير من الجدل حولها.. كما لم تقف مواهب الشاعر الرسام عند هذا الحد بل امتدت إلى عالم السينما والتمثيل بما قدمه من أدوار في بعض الأعمال الفنية، أو بما قدمه من أشعار وأغاني تغنى بها المطربون والممثلون".
وقد استحق صلاح جاهين بحق، إنطلاقا من شعره بالعامية، أن يطلق عليه العديد من الألقاب "الضاحك الباكي" و"فيلسوف الفقراء"، كما رأى العديد من شعراء وأدباء الوطن العربي أنه أبدع أروع الأعمال الشعرية، سواء الرباعيات أو الأغاني، فقال محمود درويش "إن جاهين كتب في إحدي لحظات الفرح أجمل قصيدة عشق للوطن"، ويقصد هنا قصيدة "على اسم مصر"، والتي تم استخدامها كشعار لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الحالية الـ54 "على اسم مصر.. معًا نقرأ.. نفكر.. نبدع"، نظرا لاختيار صلاح جاهين "شخصية المعرض".
وقال رئيس الهيئة العامة للكتاب، في توضيحه لأسباب اختيار جاهين، "لكونه شخصية متعددة المواهب، فهو شاعر عامية مصرى وفنان وصحفي ورسام كاريكاتير، وتعد أعماله تعبيراً عن الثراء المصري في اللغة واللهجة، فالعامية المصرية من أهم أدوات القوة الناعمة للدولة المصرية، وهذا يتسق بشدة مع ما يناقشه معرض الكتاب هذا العام حول الهوية المصرية بكل تفاصيلها".
وافتتح رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفي مدبولى أمس الأربعاء، فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي يحتفي بصلاح جاهين "شخصية المعرض" عبر استضافة "القاعة الرئيسية" في البرنامج الثقافي عددًا من المحاور، يأتي على رأسها محور "شخصيتا المعرض"، حيث يناقش هذا المحور الجوانب الإبداعية المختلفة والإسهامات الثقافية المتنوعة والدور البارز ثقافيًا الذي قدمه كل من صلاح جاهين وكامل كيلاني "شخصية معرض الطفل".
كما يتم تنظيم ندوات "صلاح جاهين ودوره في شعر العامية"، و"صلاح جاهين ومسرح الطفل"، و"تجربتي مع صلاح جاهين"، و"صلاح جاهين وفن الكاريكاتير"، و"صلاح جاهين في بلاط صاحبة الجلالة"، و"صلاح جاهين وأغانيه الوطنية"، و"رباعيات صلاح جاهين".