ابن خلدون فى مصر
جاء وليُّ الدين ابن خلدون الذى أسس علم العمران وأرسى مبادئ نشوء الأمم وازدهارها واضمحلالها فى منهج علمى دقيق إلى مصر وأقام بها، فصبغته بجوهرها المصرى القائم على الحكمة والتسامح.
سافر كثيرا وتجوّل فى بلاد الله لكنه مصرى الهوى والعلم، كان موهوبا وحكيما، قرأ التاريخ، بل إنه أرسى مسارا جديدا فى التاريخ، إذ رآه مسار وعى البشرية لذاتها.
كان ابن خلدون موسوعيا فى علم الاجتماع والاقتصاد والتخطيط العمرانى والفلسفة، فى عقلانية يطبق المنهج العلمى وهو مالكيُّ المذهب بل صار إمام المالكية فى مصر، وأذكر كيف حوت مصر علماء عصرها فجعلته إمامًا للمالكية دون النظر إلى أنه قادم من بلاد المغرب وكيف جعلت التونسى محمد الخضر حسين شيخا للأزهر، كيف كنا فى الماضى نتنقل فى بلداننا العربية دون جواز سفر وتأشيرات دخول، نقيم هنا تارة ونرحل لقُطر آخر فهو وطن يسع الجميع.
رحلات ابن خلدون استهوته منذ الصغر، أحب الرحلات فى شغف، من المغرب للأندلس إلى مصر ثم الحجاز ثم الشام والعودة إلى مصر مستقِرا بها، كم أثّرت هذه الرحلات فى كتاباته وتأملاته ورؤاه؟ ربما ألهمته نظريةَ بناء الدول والعمران وهو يتأمل نشوء الأمم وتفككها؟ يكتب سيرته الذاتية ويُسجن فى فاس عامين ولا يؤثر على نظرته للحياة وتفاؤله.. هل يحل لنا ابن خلدون مشكلة يعانيها العقل العربى إزاء التنوير؟
إذ صوّر الغربيون التنوير على أنه ضد الدين وهذا ما لم يقبله العرب والمتدينون بالعالم ولا سيما أصحاب الديانات السماوية ولن يقبلوه، لكن ابن خلدون لا يرى هذا التعارض فالتنوير ليس ضد الدين، التنوير فى أبسط تعريفاته: إعمال العقل دون توجيه الغيْر، والعقل السليم لا يرفض الأديان السماوية فلا تعارض بين العقل والنقل، ولو أننا أعدنا قراءة ابن خلدون لوجدنا فى كتابه الأشهر «العِبَر وديوان المبتدأ والخبر» ما يجعلنا نعتبر ونفكر فى أحوالنا حتى نتقدم وحتى يتحول التنوير إلى هدف وسلوك ومنهج حياة.
مختتم الكلام
قال ابن عمار الأندلسي:
نَفْسى وإنْ عَذَّبتِها تَهْواكِ وَيَهُزُّها طَرَبٌ إلى لُقياكِ
عَجَبًَا لهذا الوَصْل أصْبَحَ بيننا مُتَعَذِّرًا وَمُنَايَ فيهِ مُنَاكِ
مَا بَالُ قَلْبى حِيْنَ رَامَكِ لَم يَنَلْ وَلَقَد تَرُوُمُكِ مُقْلَتيَ فَتَرَاكِ